فصل: تفسير الآيات (156- 157):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (145- 148):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)}
{إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وهو الطبقة التي في قعر جهنم وإنما كان ذلك لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» ونحوه فمن باب التشديد والتهديد والتغليظ مبالغة في الزجر وتسمية طبقاتها السبع دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض وقرئ بفتح الراء وهو لغة كالسطر ويعضده أن جمعه أدراك {ولن تجد لهم نصيراً} يخلصهم منه والخطاب كما سبق {إلا الذين تابوا} أى عن النفاق وهو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم في الخبر {وأصلحوا} ما أفسدوا من أحوالهم في حال النفاق {واعتصموا بالله} أى وثقوا به وتمسكوا بدينه {وأخلصوا دينهم} أى جعلوه خالصاً {لله} لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه {فأولئك} إشاة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة {مع المؤمنين} أى المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضاً مؤمنون أى معهم في الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك قوله تعالى: {وسوف يؤتى الله المؤمنين أجراً عظيماً} لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجوداً وعدماً إنما هو كفرهم لا شئ آخر فيكون مقرراً لما قبله من إثابتهم عن توبتهم وما استفهامية مفيدة للنفى على أبلغ وجه وآكده أى أى شئ يفعل الله سبحانه بتعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعاً أم يستدفع به ضرراً كما هو شأن الملوك وهو الغنى المتعالى عن أمثال ذلك وإنما هو أمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لا محالة وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق موصل إليه فإن النظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية والآنانية فيشكر شكراً مبهماً ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه {وكان الله شاكراً} الشكر من الله سبحانه هو الرضا باليسير من طاعة عباده وأضعاف الثواب بمقابلته {عليماً} مبالغاً في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} عدمُ محبتِه تعالى لشيء كنايةٌ عن سَخَطه والباءُ متعلقةٌ بالجهر، ومِنْ بمحذوف وقع حالاً من السوء أي لا يحب الله تعالى أن يجهرَ أحدٌ بالسوء كائناً من القول {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} أي إلا جهرَ مَن ظُلم بأن يدعُوَ على ظالمه أو يَتظلَّمَ منه ويذكرَه بما فيه من السوء فإن ذلك غيرُ مسخوط عنده سبحانه، وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيردَّ على الشاتم {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} الآية، وقيل: «ضافَ رجلٌ قوماً فلم يُطعِموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت». وقرئ {إلا من ظَلَم} على البناء للفاعل فالاستثناءُ منقطِعٌ أي ولكنِ الظالمُ يرتكب ما لا يُحبه الله تعالى فيجهر بالسوء {وَكَانَ الله سَمِيعاً} لجميع المسموعاتِ فيندرجُ فيها كلامُ المظلومِ والظالم {عَلِيماً} بجميع المعلوماتِ التي من جملتها حالُ المظلومِ والظالم، فالجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما يفيده الاستثناء.

.تفسير الآيات (149- 151):

{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)}
{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} أيَّ خيرٍ كان من الأقوال والأفعالِ {أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء} مع ما سُوِّغ لكم من مؤاخذة المسيءِ والتنصيفِ عليه مع اندراجه في إبداء الخيرِ وإخفائه لما أنه الحقيقُ بالبيان، وإنما ذُكر إبداءُ الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبىء عنه قوله عز وجل: {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} فإن إيرادَه في معرِض جوابِ الشرطِ يدل على أن العُمدة هو العفوُ مع القدرة أي كان مبالِغاً في العفو مع كمال قدرتِه على المؤاخذة. وقال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسُنة الله تعالى، وقال الكلبي: هو أقدر على عفو ذنوبِكم منكم على عفو ذنوبِ مَنْ ظلمكم، وقيل: عفُوّاً عمن عفا قديراً على إيصال الثوابِ إليه {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ} أي يؤدِّي إليه مذهبُهم ويقتضيه رأيُهم لا أنهم يصرِّحون بذلك كما ينبىء عنه قولُه تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} أي بأن يؤمنوا به تعالى ويكفُروا بهم لكن لا بأن يصرِّحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبةً بل بطريق الاستلزامِ كما يحكيه قوله تعالى: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي نؤمن ببعض الأنبياءِ ونكفُر ببعضهم كما قالت اليهودُ بموسى والتوراةِ وعزيرٍ، ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا كفرٌ بالله تعالى ورسُلِه وتفريقٌ بين الله تعالى ورسُله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياءِ عليهم السلام وما من نبيَ من الأنبياء إلا وقد أخبر قومَه بحقية دينِ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضاً من حيث لا يحتسب {وَيُرِيدُونَ} بقولهم ذلك {أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك} أي بين الإيمان والكفرِ {سَبِيلاً} يسلُكونه مع أنه لا واسطةَ بينهما قطعاً إذِ الحقُّ لا يتعدد وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال.
{أولئك} الموصوفون بالصفات القبيحةِ {هُمُ الكافرون} الكاملون في الكفر لا عبرةَ بما يدّعونه ويسمونه إيماناً أصلاً {حَقّاً} مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي حَقَّ ذلك أي كونُهم كاملين في الكفر حقاً، أو صفةٌ لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا كفراً حقاً أي ثابتاً يقيناً لا ريب فيه {وَأَعْتَدْنَا للكافرين} أي لهم وإنما وُضع المُظهرُ مكان المُضمرِ ذماً لهم وتذكيراً لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم داخلون في زُمرتهم دخولاً أولياً {عَذَاباً مُّهِيناً} سيذوقونه عند حُلولِه.

.تفسير الآيات (152- 153):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}
{والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} أي على الوجه الذي بُيّن في تفسير قولِه تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} الآية، {وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخَرين كما فعله الكفرة، ودخولُ {بَيْنَ} على أحد قد مر تحقيقه في سورة البقرة بما لا مزيدَ عليه {أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلةِ المذكورةِ {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} الموعودةَ لهم وتصديرُه بسوف لتأكيد الوعدِ والدلالةِ على أنه كائنٌ لا محالةَ وإنْ تراخى، وقرئ {نُؤتيهم} بنون العظمة {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما فرَط منهم {رَّحِيماً} مبالغاً في الرحمة بتضعيف حسناتِهم.
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} نزلت في أحبار اليهودِ حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً فأتِنا بكتاب من السماء جملةً كما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام وقيل: كتاباً محرَّراً بخطَ سماويَ على اللوح كما نزلت التوراةُ، أو كتاباً نُعايِنُه حين يَنزِل، أوْ كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسولُ الله، وما كان مقصِدُهم بهذه العظيمة إلا التحكمَ والتعنّتَ. قال الحسنُ: ولو سألوه لكي يتبيَّنوا الحقَّ لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} جوابُ شرطٍ مقدّر، أي إن استكبرتَ ما سألوه منك فقد سألوا موسى شيئاً أكبرَ منه، وقيل: تعليلٌ للجواب أي فلا تُبالِ بسؤالهم فقد سألوا موسى أكبرَ منه، وهذه المسألةُ وإن صدَرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون وما يذرون أُسنِدت إليهم، والمعنى أن لهم في ذلك عِرْقاً راسخاً وأن ما اقترحوه عليك ليس أولَ جهالاتِهم {فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي أرِناه نَرَهُ جهرةً أي عِياناً أو مجاهرين معاينين له، والفاءُ تفسيريةٌ {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي النارُ التي جاءتهم من السماء فأهلكتهم، وقرئ {الصعقةُ} {بِظُلْمِهِمْ} أي بسبب ظلمِهم وهو تعنتُهم وسؤالُهم لما يستحيل في تلك الحالةِ التي كانوا عليها، وذلك لا يقتضي امتناعَ الرؤيةِ مطلقاً {ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} أي المعجزاتِ التي أظرها لفرعون من العصا واليدِ البيضاءِ وفلْقِ البحر وغيرِها، لا التوراةُ، لأنها لم تنزلْ عليهم بعد {فَعَفَوْنَا عَن ذلك} ولم نستأصِلْهم وكانوا أحقاءَ به. قيل: هذا استدعاءٌ لهم إلى التوبة كأنه قيل: إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضاً حتى نعفوَ عنكم.
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن} سلطاناً ظاهراً حيث أمرهم بأن يقتُلوا أنفسَهم توبةً عن معصيتهم.

.تفسير الآيات (154- 155):

{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}
{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم} أي بسبب ميثاقِهم ليُعطوه على ما روي أنهم هموا بنقضه فرفع الله تعالى عليهم الجبلَ فجاؤا وأقلعوا عن النقض وهو الأنسبُ بما سيأتي من قوله عز وجل: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} {وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسان موسى عليه السلام والطورُ يظلِّلهم {ادخلوا الباب} قال قتادة: كنا نحدَّث أنه بابٌ من أبواب بيتِ المقدس، وقيل: هو إيليا، وقيل: هو أريحا، وقيل: هو اسمُ قريةٍ، وقيل: بابُ القُبةِ التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخُلوا بيتَ المقدسِ في حياة موسى عليه السلام {سُجَّدًا} أي متطامنين خاضعين {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ} أي {لا تظلِموا} باصطياد الحيتانِ {فِى السبت} وقرئ {لا تعتدوا} ولا تعَدّوا بفتح العين وتشديد الدال على أن أصله تعتدوا فأدغمت التاءُ في الدال لتقاربهما في المخرج بعد نقل حركتها إلى العين {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ} على الامتثال بما كُلّفوه {ميثاقا غَلِيظاً} مؤكداً وهو العهدُ الذي أخذه الله عليهم في التوراة، قيل: إنهم أعطَوا الميثاقَ على أنهم إن همّوا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذِّبهم بأي أنواع العذاب أراد.
{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} ما مزيدةٌ للتأكيد أو نكرةٌ تامةٌ ونقضُهم بدلٌ منها والباءُ متعلقةٌ بفعل محذوفٍ أي فسبب نقضِهم ميثاقَهم ذلك فعلْنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخِ وغيرِهما من العقوبات النازلةِ عليهم أو على أعقابهم. روي أنهم اعتَدَوا في السبت في عهد داودَ عليه السلام فلُعنوا ومُسِخوا قِردةً، وقيل: متعلقةٌ بحَرَّمْنا على أن قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ} بدل من قوله تعالى: {فَبِمَا} وما عطف عليه فيكون التحريمُ معلّلاً بالكل، ولا يخفى أن قولَهم: إنا قتلنا المسيحَ وقولَهم على مريمَ البهتانُ متأخرٌ عن التحريم ولا مساغ لتعلّقها بما دل عليه قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} لأنه رد لقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فيكون من صلة قولِه تعالى: {وَقَوْلِهِمْ} المعطوفِ على المجرور فلا يعمل في جاره {وَكُفْرِهِم بئايات الله} أي بالقرآن أو بما في كتابهم {وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ} كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمعُ أغلفَ أي هي مغشاةٌ بأغشية جِبِلِّيةٍ لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم أو هو تخفيفُ غُلُفٌ جمع غِلاف أي هي أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء، وقال الكلبي: يعنون أن قلوبَنا بحيث لا يصل إليها حديثٌ إلا وعتْه ولو كان في حديثك خيرٌ لوعتْه أيضاً {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلامٌ معترِضٌ بين المعطوفَين جيء به على وجه الاستطرادِ مسارعةً إلى رد زعمِهم الفاسدِ أي ليس كفرُهم وعدمُ وصولِ الحقِّ إلى قلوبهم لكونها غُلفاً بحسب الجِبِلّة بل الأمرُ بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبُهم كما زعموا بل هي مطبوعٌ عليها بسبب كفرِهم {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} منهم كعبد اللَّهِ بن سلام وأضرابِه أو إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به.

.تفسير الآيات (156- 157):

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}
{وَبِكُفْرِهِمْ} أي بعيسى عليه السلام، وهو عطفٌ على {قولهم} وإعادةُ الجارِّ لطول ما بينهما بالاستطراد، وقد جُوِّز عطفُه على بكفرهم فيكون هو وما عُطف عليه من أسباب الطبعِ، وقيل: هذا المجموعُ معطوفٌ على مجموع ما قبلَه، وتكريرُ ذكر الكفرِ للإيذان بتكرُّر كفرِهم حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً} لا يقادَر قدرُه حيث نسبوها إلى ما هي عنه بألف منزل {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} نظمُ قولِهم هذا في سلك جناياتِهم التي نُعيت عليهم ليس لمجرد كونِه كذباً بل لتضمُّنه لابتهاجهم بقتل النبيِّ عليه السلام والاستهزاءِ به فإن وصفَهم له عليه السلام بعنوان الرسالةِ إنما هو بطريق التهكّم به عليه السلام كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ يأَيُّهَا الذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر} الخ، ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيحِ على ما قيل من أن ذلك وُضِع للذكر الجميلِ من جهته تعالى مدحاً له ورفعاً لمحله عليه السلام، وإظهاراً لغاية جَراءتِهم في تصدِّيهم لقتله ونهايةِ وقاحتِهم في افتخارهم بذلك {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} حالٌ أو اعتراض.
{ولكن شُبّهَ لَهُمْ} رُوي أن رهطاً من اليهود سبُّوه عليه السلام وأُمَّه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردةً وخنازيرَ فأجمعت اليهودُ على قتله فأخبره الله تعالى بأنه سيرفعه إلى السماء فقال لأصحابه: أيُّكم يرضى بأن يُلقى عليه شبَهي فيُقتلَ ويصْلَبَ ويدخُلَ الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فألقَى الله تعالى عليه شبَهَه فقتل وصُلب، وقيل: كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتلَه قال: أنا أدلُّكم عليه فدخل بيتَ عيسى عليه السلام فرُفعَ عيسى عليه السلام وأُلقي شبَهُه على المنافق فدخلوا عليه وقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام. وقيل: إن ططيانوسَ اليهوديَّ دخل بيتاً كان هو فيه فلم يجده وألقى الله تعالى عليه شبَهه فلما خرج ظُن أنه عيسى عليه السلام فأُخذ وقُتل، وأمثالُ هذه الخوارقِ لا تستبعد في عصر النبوةِ، وقيل: إن اليهودَ لما همّوا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساءُ اليهودِ من وقوع الفتنةِ بين عوامِّهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيحُ وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطتِه عليه السلام لهم إلا قليلاً، و{شُبّه} مسندٌ إلى الجار والمجرور كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيهُ بين عيسى عليه السلام والمقتولِ، أو في الأمر على قول من قال: لم يُقتَلْ أحدٌ ولكنِ أُرجِفَ بقتله فشاع بين الناسِ، أو إلى ضمير المقتولِ لدِلالة {إِنَّا قَتَلْنَا} على أن ثمَّ مقتولاً.
{وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ} أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعةُ اختلف الناسُ فقال بعضُ اليهودِ: إنه كان كاذباً فقتلناه حتماً، وتردد آخرون فقال بعضُهم: إن كان عيسى فأين صاحبُنا، وقال بعضُهم: الوجهُ وجهُ عيسى والبدنُ بدنُ صاحبِنا، وقال مَنْ سمِع منه عليه السلام إن الله يرفعني إلى السماء: إن رُفع إلى السماء، وقال قوم: صُلب الناسوتُ وصعِدَ اللاهوت وقد مر {لَفِى شَكّ مّنْهُ} لفي تردد، والشكُ كما يطلق على ما لم يترجح أحدُ طرفيه يُطلق على مطلق الترددِ وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} استثناءٌ منقطعٌ أي لكنهم يتبعون الظن، ويجوز أن يفسَّر الشكُ بالجهل والعلمُ بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفسُ جزماً كان أو غيرَه فالاستثناءُ حينئذ متصلٌ {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي قتلاً يقيناً كما زعموا بقولهم: إنا قتلنا المسيحَ، وقيل: معناه وما علموه يقيناً كما في قول من قال:
كذاك تُخبِرُ عنها العالماتُ بها ** وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يقَناً

من قولهم: قتلتُ الشيءَ علماً ونحَرتُه علماً إذا تَبالغَ علمُك فيه، وفيه تهكمٌ بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نُفيَ ذلك عنهم بالكلية.